فرحنا كلّنا بالإنجاز البطوليّ الذي حقّقه الشعب والجيش والأمن ضدّ المعتدين المجرمين في بن قردان الأبيّة. وحقيقون نحن أن نفرح وأن نمجّد أبطالنا فكلّ الشعوب عبر التاريخ تفخر ببطولاتها وأبطالها. لكن لماذا كلّ هذا الفرح والانتشاء؟ لماذا كان الاحتفال بكلّ هذا الحجم؟
أوّلا من المؤكّد أنّ الإنجاز كان بطوليّا رائعا بكلّ المقاييس وفي جميع الأصعدة فكان الاحتفال من جنس المنجز البطوليّ. ثانيا لا ننسَ أنّ الشعب كان يهيمن عليه الإحباط الذي مأتاه ليس فقط هذا الوضع الصعب الذي تمرّ به تونس أمنيّا وسياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا بل مأتاه أيضا حالة العجز العامّة التي صارت تشلّ معظم الأقطار العربيّة أمام هذا السرطان الممتدّ، إلاّ بعض المواقع الدفاعيّة. ولذلك ففي الوقت الذي كانت أبواق الدعاية تقصف أعصابنا لتُحبِطنا وتهيّئنا لتقبّل هزيمتنا أمام داعش وأخواتها ولتشلّ تفكيرنا وقدرتها على الاهتداء إلى الحلّ الذي يحصّننا وفي الوقت الذي تتتالى فيه أخبار انهيار عدد من الجيوش العربيّة أمام العصابات المجرمة وفي الوقت الذي باتت فيه الصهيونيّة تحتفل بانتصاراتها هنا وهناك على يد أذرعها في كلّ مكان، جاء الردّ من "فئة قليلة" مرابطة مؤمنة بالله وبوطنها، في رقعة من أصغر البلاد العربيّة، ردّا على الأعداء أوّلا وعلى الذات المحبطة ثانيا لتقول: إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم. نصروا الله فنصرهم. لذلك كان الإنجاز يشبه المعجزة في أذهاننا لأنّ هذه الأذهان كانت مشلولة بالخوف. الخوف عدوّ الإنسان. فجاءت الرسالة أنّنا قادرون، إن رفعنا عن أنفسنا الخوف، على صدّ كلّ عدوان وعلى البناء بناء المستقبل. قادرون بما لدينا على أن نحقّق ما كنّا نراه معجزا. فمقدار الاحتفال والفرح إذن يكشف حجم الخوف والفزع اللذين كانا يخيّمان على النفوس والقلوب. إنّ أبطال العمليّة الأخيرة في بن قردان لم يردّوا الاعتبار لنا في تونس فقط بل إنّهم قد عزّزوا موقف الأحرار من المحيط إلى الخليج بدليل التهليل والمساندة اللذين عبّر عنهما الجميع من أنصار الحقّ في الوطن العربيّ. فلا خوف إذن "ما دمنا ننبض والأفضلون يحملون السلاح" على حدّ قول الشاعر مظفّر النوّاب.
لكن من المهمّ أيضا، في رأيي، أن نعي من أين جاء هذا النصر؟ مهمّ أن نفهم لماذا انتصرنا حتّى نعرف كيف لا تكون الهزيمة، لأنّ النصر الذي يأتي صدفة قد ينقلب هزيمة من حيث لا نعلم. من المؤكّد أنّ عناصر الجيش والأمن كانت على كفاءة قتاليّة عالية وكانت عناصر عقائديّة من الطراز الأوّل. لكنّ هذه العقيدة وتلك الكفاءة ليستا كافيتين لحسم المعركة. والدليل أنّ الجيش والأمن اللذين قاتلا في بن قردان هما جزء قليل من الجيش والأمن نفسيهما في الشعانبي حيث تتالت مفاجآت المجرمين ولم تتمكّن وحدات الجيش والأمن من صدّهم كما ينبغي. فما الجديد في بن قردان إذن؟ إنّه الشعب. لقد رأينا بأعيننا كيف خرج الناس إلى الميدان عزّلا إلاّ من إيمناهم ووطنيّتهم يقاتلون المجرمين ويردعونهم ويطاردونهم ويشدّون أزر الجنود والأمنيّين. وتابعنا بانبهار ونشوة وفخر كيف قدّم أبناء الشعب أرواحهم فداء لأرضهم وعرضهم وكيف كوّنوا درعا تحمي ظهور الجنود من الخيانة. هنا الدرسُ كلّه إذا أردنا أن نتعلّم حقّا. الشعب هو الحلّ. لا نجاح للجيش ولا للأمن إلاّ متى التحما بالشعب. فالشعب هو القوّة الضاربة حتّى وإن كان أعزل هو صاحب المصلحة الحقيقيّ في الحفاظ على وطنه وقد وجد معنى حقيقيّا في نزول الميدان والنضال دفاعا عن وطنه عن وجوده. فالاتّجاه إلى الشعب هو الحلّ والرهان عليه هو الطريق إلى النصر والحامي من الهزيمة. فمتى ستعي "النخب" الوطنيّة أنّ بوصلتها ينبغي أن تكون الشعب ولا أحد غيره؟ أن تعي هذه القيمة ليكون لها "مشروع وطنيّ" لا مجرّد "مشروع انتخابيّ دعائيّ"، مشروع وطنيّ جوهره وبوصلته الشعبُ تنميةً وتعليما وتثقيفا. وأعتقد أنّ ما نقشه الشعب في بن قردان على وجه التاريخ يصلح أن يكون مقياسا لتقييم النخب أداءها بل حتّى "وطنيّتها" بمقدار قربها أو بعدها من روح ذاك المواطن الذي قال "بلادي قبل أولادي، وطني قبل بطني" أو أولئك الذين حموا جنديّا وسقوه ليتمكّن من التقاط أنفاسه وشحن رشّاشه إلخ... إنّي لا أومن بالصدفة. فالنصر لم يكن صدفة، ثمّة شروط موضوعيّة توفّرت. قد لا نكون على علم بها لكنّها موجودة. ومتى وصلنا إليها فعرفناها وفعّلناها انتصرنا وكان مستقبلنا لنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليق على مقال بالصحيفة