تستعد حركة النهضة الإسلامية في تونس لعقد مؤتمرها الاستثنائي العاشرفي شهر أبريل 2016،وهو مؤتمر ينظر إليه المراقبون على أنه سيشكل نقطة تحول في مسار الحركة لجهة إمكانية تحولها إلى حزب سياسي عصري.ومع بداية شهر مارس الجاري كثفت حركة النهضة من عقد مؤتمراتها المناطقية (الجهوية) في مختلف المحافظات التونسية( تطاوين، مدنين، قابس، بنزرت، تونس، توزر، قبلي، صفاقس، جندوبة إضافة إلى مؤتمر الطلبة )لمناقشة لوائح انتخاب نواب المؤتمر العاشر الاستثنائي. وكانت الحركة قدمت تشخيصًا مفصلًا وتقييمًا ذاتيَا لتجربتها الحزبية منذ انطلاقتها في الثمانينات وصولًا إلى فترة ما بعد الثورة، وأكدت في بيان لها أنها لن تتوانى عن تقديم نقد ذاتي لتجربتها كلما سنحت الفرصة ،ولاسيما في الوثيقة التي نشرتها عقب مؤتمر 1995 والتي تعرضت بالنقد لتجربتها وعبرت عن رغبتها في التطور نحو الأفضل وذلك تزامنا مع تحضيراتها لانعقاد مؤتمرها العاشر .
لقد هيمنت مسألة الإصلاح على أجواء المؤتمرات المناطقية، التي حضر بعضها زعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي ،الذي أكدّ أكثر من مرّة أمام المؤتمرين ،أنه «لا يزال أمامنا معارك كثيرة نخوضها من أجل الإصلاح و التعديل حتى تكون الحركة قادرة على حَلِّ هموم الناس»، ومذكرًا بالتصالح مع الدولة، باعتبار أن الثورة نجحت في استرداد الدولة من براثن الاستبداد وجعتلها في خدمة الشعب».
ويتضح من براغماتية الغنوشي ، و دعوته الصريحة إلى تجاوز معارك الهوية والاصطفاف على أساسها،و العمل إلى الاصطفاف الجديد وفق خيارات الديمقراطية و الدولة، أنه يُوَّجِّهُ مجموعة من الرسائل إلى الساحة السياسية الوطنية والإقليمية والدولية ،وهي أنّ الحركة مُوَحَّدَةٌ حول اعتماد دستور الجمهورية الثانية ،ومتمسّكة بالدفاع عن الدولة ،وعلى رفض العنف ومكافحة الإرهاب ،وعلى اعتماد الديمقراطية أداة للحكم سواء في الدولة أو صلب الحركة وعلى الخضوع للمؤسسات. فقد نجح الغنّوشي في عزف سيمفونية سياسية جمعت بين التراثي والعصري ملقيا خطابات تشرّبت من الفكر اليساري الاجتماعي والحركات النقابية ومن موروث الحركة الدستورية في الدفاع عن المسألة الوطنية إلى درجة أنّ أحد الملاحظين تساءل «ماذا ترك الغنّوشي لليسار والدساترة؟».
خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي في تونس المستمرة منذ خمس سنوات،احتدم التناقض الجوهري بين القوى السياسية التي تتبنى الحداثة بكل منطوياتها الفكرية و السياسية و الثقافية،وحركة النهضة في مسألة الديموقراطية، وحقوق الإنسان، وحقوق الأقليات، وحقوق المرأة، وقضايا المساواة بين الرجال والنساء أمام القانون، وتطبيق الحدود، وبعض أوجه ممارسة حقوق المواطنة، ورؤية الإسلام السياسي إلى الديموقراطية وتعدد الاجتهادات داخل قياداته، التي يذهب البعض منها إلى القول بالتناقض التام بين الإسلام والديموقراطية، في حين يذهب البعض الآخر إلى المطابقة بين المبادئ الديموقراطية والشورية الإسلامية.
وفي هذا الصدد، يقول السيد لطفي زيتون أحد أبرز المحدثين داخل حركة النهضة، و المستشار السياسي للغنوشي في مقال حديث نشرته صحيفة الشروق التونسية بتاريخ 1مارس 2016:«.. من هنا فإن حركة النهضة التي نشأت في نسختها الأولى جماعة منغلقة سرية حاملة لهمّ الدفاع عن الهوية ومقتصرة عليه وجب عليها أن تواصل التطور الذي ميزها من خلال مسيرتها السياسية الطويلة وتفاعلها مع محيطها الوطني والدولي، لتتشكل بعد مؤتمرها القادم حزبا سياسيا وطنيا يعتبر أن التحول الذي طرأ في العالم وفي بنية الدولة التونسية وطبيعتها يسمح بأن يتحرر الإسلام من أسر الصراع السياسي ليعود إلى مكانته الطبيعية اهم مكون من مكونات الإجماع والاجتماع التونسيين وأهم مرجعية من مرجعيات الدولة التونسية، وهو باعتباره ذلك ملكا لجميع التونسيين بالتساوي سواء أكانوا يؤمنون به عقيدة أم ينتمون له ثقافة وحضارة، ما يمكنهم من توظيف قيمه والاستفادة منها في برامجهم ورؤاهم دون عقد ولا احتكار من جهة ما. وهو بهذا الاعتبار فوق النزاعات الحزبية والمنافسة السياسية، ذلك أنّ الأحزاب السياسية تُترجم رؤية إنسانية لتنظيم المجتمع وتطويره وليست ترجمة للرسالات السماوية المقدّسة».
وفي مقابلة أجرتها صحيفة الشروق التونسية مع زعيم حركة النهضة الإسلامية في 19يناير الماضي، لم يعط الشيخ راشد الغنوشي الذي يتميز بحضوره الفكري و السياسي التاريخي في الحركات الإسلامية العربية جوابًا شافيًا وتاريخيًا بصدد إمكانية تحول حزب النهضة الإسلامي إلى حزب مدني ، يتطلب منه و الحال هذه القيام بالفصل بين المجال السياسي و المجال الديني،باعتباره الإشكال الرئيس الذي سيواجهه المؤتمر العاشر لحركة النهضة الذي سيعقد قريبا خلال هذه السنة . فقد أقرّراشد الغنوشي في هذه المقابلة بطريقة غير مباشرة بأنّه لم يتمّ إلى الآن الفصل بين السياسي والديني ، أي بلغة أخرى بين الحزبي والمسجدي، وإقراره يتجلّى في اعترافه بالرغبة في التمييز بين المجالين «فالنهضة لم تعد حزبا صغيرا بل صارت حزبا كبيراً، والابرز الآن في النهضة هو الجانب السياسي، في كل اجتماعات المكتب التنفيذي كانت السياسة تفرضُ نفسها ونحن تركنا الجوانب الاخرى» على حدّ قوله.بل ويذهب إلى أكثر من ذلك ليرفض الفصل بين المجالين ويصر على التمييز، وهو مصطلح يأتي بين الوصل والفصل، فهو مصطلح حمّال غموض ولا يخلو من المناورة، اذن الغنوشي لا يقرّ بالفصل بل يتحدّث عن التمايز، فيكون بذلك الدعوي هو الجناح الايديولوجي للسياسي.
هكذا يُبْقِي الغنوشي حزب النهضة الإسلامي في وضعية «شبه مدني وشبه ديني » متجنبًا بذلك خوض معركة الإصلاح الديني داخل حزبه ، لجهة القيام بالفصل بين الدين و الدولة ، و بالتالي تجسيد القطيعة الإيبستيمولوجية الفلسفية و السياسية مع أيديولوجية الإخوان المسلمين التي تعارض فيها العلمانية بالإسلام، والعلم بالدين،و الحداثة بالأصالة، و المستقبل بالماضي، و الديمقراطية بالشورى..وينتاب الشك العلمانيون بسبب الموقف «الانتهازي» و«الوصولي» للإسلاميين من الديموقراطية ونظرتهم الأداتية لها ،التي تجردها من مضمونها الثقافي وتحولها إلى مجرد آليات للوصول إلى السلطة ـ وإضمارهم النية في الانقضاض عليها بعد اعتلاء السلطة، والعودة بالحياة السياسية إلى نفق العلاقة التلازمية بين الدين والدولة، والى إنفاذ مشروعهم القاضي بتطبيق الشريعة الإسلامية، أو بدعوى موقفهم المتزمت من حقوق المرأة ومن حرية الرأي، و حرية الإعلام ، ومن الحريات الفردية التي يرون فيها انتهاكاً لنظام القيم الإسلامية. إعلان الدولة دولة المواطنين، دولة الحق والقانون.
ولا يزال حزب النهضة يتعاطي مع الديمقراطية بوصفها«صندوق اقتراع» فحسب ، وليست كفلسفة فكرية وثقافية وسياسية، طرحها العصر الحديث ومستوى التطور الذي وصلت إليه البشرية منذ عصر النهضة الأوروبية و ليومنا هذا، تُعْلِي من قيمة ،العلمانية، والدولة الوطنية الحديثة،والمواطنة.
تبقى أن العلمانية مفهومة فهماً جدلياً صحيحاً هي المدخل الضروري تاريخياً لارتقاء سديم بشري من مستوى الإنتماءات ما قبل القومية: العائلية، والعشائرية،و المذهبية، و الدينية ، و الأقوامية إلى مستوى مواطنين متساوين في الحقوق و الواجبات في ظل سيادة الشعب، و سيادة القانون.و العلمانية بهذا الفهم ، هي المدخل الحقيقي إلى بناء المواطنية الحقة، و بناء الدولة الديمقراطية الحديثة التعددية، دولة الحق والقانون التي يستقل فيها الدين عن الدولة و الدولة عن الدين . ولا يزال حزب «النهضة» الإسلامي متذبذاً لجهة تبنيه فكرة «الإسلام الليبرالي» ،التي تؤمن بالموائمة بينها و بين الديمقراطية، حيث كانت الديمقراطية تُعَدُّ بدعة غربية في المرجعية الإسلامية ، وعلى أساس أن الإسلام- في زعم معظم الحركات الإسلامية على اختلاف مسمياتها-لا يعرف سوى نظام الشورى.
ومن المهم أن نشير إلى أن أصحاب هذه النظرة لا يذهبون إلى حد فصل الدين عن الدولة، غير أنهم يقررون أن صمت الفقه الإسلامي عن معالجة نظم الدولة، ما عدا الإشارة إلى «الشورى»، يسمح في الواقع بتأسيس دولة إسلامية ليبرالية يختار فيها المواطنون مؤسساتهم السياسية كما يريدون، ويغيرونها إذا شاؤوا حسب الظروف. غير أن ذلك لا يمنع من أن توصف الدولة بأنها إسلامية. علماً أن مفهوم الدولة وفق المفهوم الإسلامي التاريخي، يتعارض على نحو شبه كلي مع مفهوم الدولة- الأمة، الحديثة والمعاصرة بتعقيداتها ومرجعياتها، وحمولاتها من التطور التاريخي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي كجزء من جدل ظهور الدولة الوطنية الحديثة في سيرورة ارتباطها بالثورة الديمقراطية البرجوازية ، و بصعود الرأسمالية المستنيرة في أوروبا و أميركا الشمالية.
بشهادة الدول الأوروبية و الأميركية ،وهيئة الأمم المتحدة، تونس تعدّ البلد العربي الوحيد الذي يمرّ بعملية انتقال ديمقراطي ناجحة، لكن هذا الأمر مرهون أيضاً بإعاة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية ، وإعطاء بُعد راديكالي لمضمون هذه الديمقراطية الناشئة، من خلال المسائل التالية:
أولا:أن تقوم حركة النهضة بمراجعة نقدية وجذرية لمرجعيتها الأيديولوجية في مؤتمرها العاشر المقبل ، لجهة أن تتحرّر كليامن الوثيقة-العقدة،التي تحمل العنوان التالي:الرؤية الفكرية و المنهج الأصولي لحركة الاتجاه الإسلامي، التي تم تبنيها في المؤتمر التأسيسي للحركة في 6حزيران 1981، التي يعتبرها الجميع دستور حركة النهضة، إلى يومنا هذا .وهي وثيقة مهمة جدا ، تمثل المرجعية الأيديولوجية لحركة النهضة، حيث تنساب كل التصورات والأفكار والأحكام من العقيدةالإسلامية .لا نفرق ين التوجه لله بالشعائر والتلقي منه في الشرائع، لأن الانحراف عن أي منهما يخرج صاحبه من الإيمان والإسلام قطعا.
ثانيا:أن تقوم حركة النهضة في مؤتمرها العاشر بالفصل بين المجال السياسي و المجال الديني ،كما ينص على ذلك القانون و الدستور في تونس، و ليس التمايز بين المجالين كماجاء في حديث الغنوشي، حتى تستطيع الحركة أن تتحول إلى حزب مدني يعمل تحت سقف قيم الجمهورية العلمانية، ويقرّباحترام حرية العقيدة ،وحرية الممارسة الدينية أو عدمها، أي حرية اللاتديّن. فالأمر يتصل هنا بحرية الضمير التي لا يكون لحرية التعبير معنىً بدونها. إن الاستقواء بالمقدّس الديني، في حلّ المسائل الدنيوية، هو تهميش للحجة العقلية، وكبح للديمقراطية، ونقيض لها. فالإيمان مسألة شخصية، وموقف فردي بين الإنسان وخالقه. وبصفتها كذلك فهي لا تخضع لإلزام خارجي
ثالثاً: إن المتمسكين ببناء دولة وطنية ديمقراطية تعددية في تونس ، وفي عموم العالم العربي، يرون أن هذا هو جوهر الموضوع، المتمثل في الفصل بين المجال السياسي و المجال الديني ، فالدين لله والوطن للجميع، لأنّ الديني هو مجال المقدّس المتعالي البعيد عن التغيّر في حين السياسي هو مجال البدء والانتهاء مجال التغيير وبالتالي مجال التاريخ، في حين لا يعترف المقدّس بالتغيير لأنّه لا يستمدّ حركته إلاّ ممن هو فوق التاريخ. ولن تكون حركة النهضة مقبولة تونسيًا و دوليًا، إلا عندما تخرج من عباءة الأيديولوجيا الإسلامية الإخوانية ، وتتخلى عن السجال العنيد مع النظام العلماني القائم في تونس ، وتدرك أن العلمانية ليست عداء للإسلام ،بل هي السبيل الأمثل إلى تجاوز المشكلات الأيديولوجية والمذهبية من أجل تحقيق العدالة والمساواة بين جميع أفراد الشعب التونسي ، وهي الحل الأنجع لتفادي غرق الدولة في المشكلات الطائفية وانتهاك حقوق الإنسان، وهي وحدها القادرة على ترسيخ التجربة الديموقراطية ،وتذليل الخلافات السياسية والعقائدية بين مختلف العائلات الأيديولوجية و السياسية الكبيرة الليبرالية والماركسية و القومية و الإسلامية ،لأنها تفسح لها في المجال للانصراف إلى حل المشكلات التي تواجه المجتمع التونسي مثل التنمية الاقتصادية والاجتماعية وإرساء العدالةالاجتماعية .لا سيما أن العلمانية ليست صنوَ الإلحاد أو نبذ الدين، وكما أيضا أن الديموقراطية والعلمانية متلازمتان لا تقوم قائمة لإحداهما من غير الأخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليق على مقال بالصحيفة